كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومنها اجتهاد ابن مسعود رضي الله عنه في المرأة التي توفي زوجها ولم يفرض لها صداقًا ولم يدخل بها. فقال: أقول فيها برأيي، فإن كان صوابًا فمن الله: لمها كمهر نسائها لا وكس ولا شطط، ولها الميراث وعليها العدة. وقد شهد لابن مسعود بعض الصحابة أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قضى بنحو ذلك في بروع بنت واشق، ففرح بذلك.
ومنها اجتهاد الصحابة في أن أبا بكر رضي الله عنه أولى من غيره بالإمامة، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قدمه على غيره في إمامة الصلاة.
ومنها اجتهاد أبي بكر في العهد بالخلافة إلى عمر، سواء قلنا إنه من المصالح المرسلة، أو قلنا إنه قاس العهد بالولاية على العقد لها. ومن ذلك اجتهادهم في جمع المصحف بالكتابة. ومن ذلك اجتهادهم في الجد والإخوة، والمشتركة المعروفة بالحمارية واليمية.
ومنها اجتهاد أبي بكر في التسوية بين الناس في العطاء، واجتهاد عمر في تفضيل بعضهم على بعض فيه.
ومنها اجتهادكم في جلد سكران ثمانين، قالوا: إذا سكر هذى، وإذا هذى افترى فحدوه حد الفرية. وأمثال هذا كثيرة جدًّا. وهي تدل على أن اجتهاد الصحابة في مسائل الفقه متواتر معنى، فإن الوقائع منهم في ذلك وإن لم تتواتر آحادها فمجموعها يفيد العلم اليقيني لتواترها معنى، كما لا يخفى على من ذلك. ورسالة عمر بن الخطاب إلى أبي موسى المتضمنة لذلك مشهورة. وقال ابن القيم في إعلام الموقعين: وقال الشعبي عن شريح قال لي عمر: اقض بما استبان لك من كتاب الله، فإن لم تعلم كل كتاب الله فاقض بما استبان لك من قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن لم تعلم كل أقضية رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما استبان لك من أئمة المهتدين، فإن لم تعلم كل ما قضت به أئمة المهتدين فاجتهد رأيك، واستشر أهل العلم والصلاح.. إلى أن قال: وقايس على بن أبي طالب رضي الله عنه زيد بن ثابت في المكاتب، وقايسه في الجد والإخوة، وقاس ابن عباس الأضراس بالأصابع وقال: عقلها سواء، اعتبروها بها. قال المزني: الفقهاء من عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا وهلم جرا استعملوا المقاييس في الفقه في جميع الأحكام في أمر دينهم، وأجمعوا بأن نظير الحق حق، ونظير الباطل باطل، فلا يجوز لأحد إنكار القياس لأنه التشبيه بالأمور والتمثيل عليها.
قال أبو عمر بعد حكاية ذلك عنه: ومن القياس المجمع عليه صيد ما عدا الكلب من الجوارح قياسًا على الكلاب بقوله: {وما عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]، وقال عز وجل: {والذين يَرْمُونَ المحصنات} [النور: 4] فدخل في ذلك المحصنون قياسًا. وكذلك قوله في الإماء {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] فدخل في ذلك العبد قياسًا عند الجمهور إلا من شذ ممن لا يكاد يعد قوله خلافًا. وقال في جزاء الصيد المقتول في الإحرام: {وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا} [المائدة: 95] فدخل فيه قتل الخطأ قياسًا عند الجمهور إلا من شذ وقال: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [الأحزاب: 49] فدخل في ذلك الكتابيات قياسًا.
وقال في الشهادة في المداينات: {فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهداء} [البقرة: 282] فدخل في معنى إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى قياسًا للمواريث والودائع والغصوب وسائر الأموال. وأجمعوا على توريث البنتين الثلثين قياسًا على الأختين. وقال عمن أعسر بما عليه من الربا: {وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280] فدخل في ذلك كل معسر بدين حلال، وثبت ذلك قياسة.
ومن هذا الباب توريث الذكر ضعفي ميراث الأنثى منفردًا، وإنما ورد النص في اجتماعهما بقوله: {يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} [النساء: 11]، وقال: {وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين} [النساء: 176].
ومن هذا الباب قياس التظاهر بالبنت على التظاهر بالأم فيم لو قال لزوجته: أنت على كظهر بنتي. وقياس الرقبة في الظهار على الرقبة في القتل بشرط الإيمان. وقياس تحريم الأختين وسائر القرابات من الإماء على الحرائر في الجمع في التسري. قال: وهذ لو تقصيته لطال به الكتاب.
قلت. بعض هذه المسائل فيها نزاع، وبعضها لا يعرف فيها نزاع بين السلف. وقد رام بعض نفاة القياس إدخال هذه المسائل المجمع عليها في العمومات اللفظية، فأدخل قذف الرجال في قذف المحصنات، وجعل المحصنات صفة للفروج لا للنساء. وأدخل صيد الجوارح كلها في قوله: {وما عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح} [المائدة: 4] وقوله: {مُكَلِّبِين} [المائدة: 4] وإن كان من لفظ الكلب فمعناه مغرين لها على الصيد. قاله مجاهد والحسن، وهو رواية عن ابن عباس. وقال أبو سليمان الدمشقي {مُكَلِّبِينَ} معناه معلمين، وإنما قيل لهم {مُكَلِّبِين} لأن الغالب من صيدهم إنما يكون بالكلاب. وهؤلاء وإن أمكنهم ذلك في بعض المسائل، كما جزموا بتحريم أجزاء الخنزير لدخوله في قوله: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: 145] وأعادوا الضمير إلى المضاف إليه دون المضاف فلا يمكنهم ذلك في كثير من المواضع، وهم يضطرون فيها ولابد إلى القياس أو القول بما لم يقل به غيرهم ممن تقدمهم. فلا يعلم أحد من أئمة الفتوى يقول في قول النَّبي صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن فأرة وقعت في سمن: «ألقوها وما حولها وكلوه» إن ذلك يختص بالسمن دون سائر الأدهان والمائعات. هذا مما يقطع بأن الصحابة والتابعين وأئمة الفتيا لا يفرقون فيه بين السمن والزيت والشيرج والدبس. كما لا يفرق بين الفأرة والهرة في ذلك.
وكذلك نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الرطب بالتمر، لا يفرق عالم يفهم عن الله رسوله بين ذلك وبين العنب بالزبيب. ومن هذا أن الله سبحانه قال في المطلقة ثلاثًا: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله وَتِلْكَ حُدُودُ الله} [البقرة: 230] أي إن طلقها الثاني فلا جناح عليها وعلى الزوج الأول أن يتراجعا. والمراد به تجديد العقد، وليس ذلك مختصًا بالصورة التي يطلق فيها الثاني فقط، بل متى تفارقا بموت أو خلع أو فسخ أو طلاق حلت للأول قياسًا على الطلاق.
ومن ذلك قول النَّبي صلى الله عليه وسلم: «لاَ تَأْكُلُوا في آنِيَة الذَّهب والفِضّة ولاَ تَشْرَبُوا في صحافها فإنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة» وقوله: «الذي يَشْرَبُ فِي آنِيَة الذَّهَب والفِضّة: إِنما يُجَرْجِر في بَطْنِه نارَ جهنَم» وهذا التحريم لا يختص بالأكل والشرب، بل يعم سائر وجوه الانتفاع، فلا يحل له أن يغتسل بها، ولا يتوضأ بها، ولا يكتحل منها وهذا أمر لا يشك فيه عالم.
ومن ذلك نهى النَّبي صلى الله عليه وسلم المحرم عن لبس القميص والسراويل والعمامة والخفين، ولا يختص ذلك بهذه الأشياء فقط، بل يتعدى النهي إلى الجباب والأقبية والطيلسان والقلنسوة، وما جرى مجرى ذلك من الملبوسات.
ومن هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «إذَا ذَهَبَ أَحَدُكُم إِلى الغائِط فليذهب معه بثَلاَثَة أَحْجَار» فلو ذهب معه بخرقة تنظيف أكثر من الأحجار، أو بطن أو صوف أو خز ونحو ذلك جاز. وليس للشارع غرض في غير التنظيف والإزالة، فما كان أبلغ في ذلك كان مثل الأحجار في الجواز أو أولى.
ومن ذلك أنَّ النَّبي صلى الله عليه وسلم: «نهى أن يبيع الرجل على بيع أخيه أو يخطب على خطبته». معلوم أن المفسدة التي نهى عنها في البيع والخطبة موجودة في الإجارة. فلا يحل له أن يؤجر على إجارته. وإن قدر دخول الإجارة في لفظ البيع العام وهو بيع المنافع فحقيقتها غير حقيقة البيع، وأحكامها غير أحكامه.
ومن ذلك قوله سبحانه وتعالى في آية التيمم: {وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فاطهروا وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النساء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا} [المائدة: 6] فألحقت الأمة أنواع الحدث الأصغر على اختلافها في نقضها بالغائط. والآية لم تنص من أنواع الحدث الأصغر إلا عليه وعلى اللمس، على قول من فسره بما دون الجماع. وألحقت الاحتلام بملامسة النساء، وألحقت واجد ثمن الماء بواجده. وألحقت من خاف على نفسه أو بهائمه من العطش إذا توضأ بعادم الماء. فجوزت له التيمم وهو واجد للماء. وألحقت من خشي المرض من شدة برد الماء بالمريض في العدول عنه إلى البدل. وإدخال هذه الأحكام وأمثالها في العمومات المعنوية التي لا يستريب من له فهم عن الله ورسوله في قصد عمومها وتعليق الحكم به، وكونه متعلقًا بمصلحة العبد أولى من إدخالها في عمومات لفظية بعيدة التناول لها ليست بحرية الفهم مما لا ينكر تناول العموميين لها.
فمن الناس من يتنبه لهذا، ومنهم من يتفطن لتناول العموميين لها.
ومن ذلك قوله تعالى: {وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ} [البقرة: 283] قاست الأمة الرهن في الحضر على الرهن في السفر مع وجود الكاتب على الرهن مع عدمه. فإن استدل على ذلك بأن النَّبي صلى الله عليه وسلم رهن درعه في الحضر فلا عموم في ذلك. فإنما رهنا على شعير استقرضه من يهودي فلابد من القياس: إما على الآية، وإما على السنة.
ومن ذلك أن سمرة بن جندب لما باع خمر أهل الذمة وأخذ ثمنها في العشور التي عليهم. فبلغ ذلك عمر قال: قاتل الله سمرة؟ أما علم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لَعَنَ الله اليَهُودَ حُرمَت عليهم الشُّحُوم فجملوها وَبَاعُوهَا وَأَكَلُوا أَثْمَانَها» وهذا محض القياس من عمر رضي الله عنه. فإن تحريم الشحوم على اليهود كتحريم الخمر على المسلمين. وكما يحرم ثمن الشحوم المحرمة فكذلك يحرم ثمن الخمر الحرام.
ومن ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم جعلوا العبد على النصف من الحر في النكاح والطلاق والعدة، قياسًا على ما نص الله عليه من قوله: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء: 25] ثم ذكر رحمه الله آثارًا دالة على أن الصحابة جعلوا العبد على النصف من الحر فيما ذكر قياسًا على ما نص الله عليه من تنصيف الحد على الأمة.
ومن ذلك توريث عثمان بن عفان رضي الله عنه المبتوتة في مرض الموت برأيه، ووافقه الصحابة على ذلك.
ومن ذلك قول ابن عباس رضي الله عنهما في نهي النَّبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الطعام قبل قبضه، قال: أحسب كل شيء بمنزلة الطعام.
ومن ذلك أن عمر وزيدًا رضي الله عنهما لما قالا: إن الأم ترث ما بقي بعد أحد الزوجين في مسألة زوج أو زوجة مع الأبوين، قاسا وجود أحد الزوجين مع الأبوين على ما إذا لم يكن هناك زوج ولا زوجة، فإنه حينئذ يكون للأب ضعف ما للأم، فقدرا أن الباقي بعد الزوج أو الزوجة كل المال. وهذا من أحسن القياس. فإن قاعدة الفرائض: أن الذكر والأنثى إذا اجتمعا وكانا في درجة واحدة، فإما أن يأخذ الذكر ضعف ما تأخذه الأنثى كالأولاد وبني الأب، وإما أن تساويه كولد الأم. وأما أن الأنثى تأخذ ضعف ما يأخذ مع مساواته لها في درجته فلا عهد به في الشريعة. فهذا من أحسن الفهم عن الله ورسوله.
ومن ذلك أخذ الصحابة رضي الله عنهم في الفرائض بالعول، وإدخال النقص على جميع ذوي الفرائض قياسًا على إدخال النقص على الغرماء إذا ضاق مال المفلس عن توفيتهم. ولا شك أن العول الذي أخذ به الصحابة رضي الله عنهم أعدل من توفية بعض المستحقين حقه كاملًا ونقص بعضهم بعض حقه، فهذا ظلم لا شك فيه، وأمثال هذا كثيرة، فلو تقصيناها لطال الكلام جدًّا.
وهذه الوقائع التي ذكرنا وأمثالها مما لم نذكر تدل دلالة قطعية على أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يستعملون القياس في الأحكام، ويعرفونها بالأمثال والأشباه والنظائر، ولا يلتفت إلى من يقدح في كل سند من أسانيدها، فإنها في كثرة طرقها واختلاف مخارجها وأنواعها جارية مجرى التواتر المعنوي الذي لا شك فيه وإن لم يثبت كل فرد من الإخبار بها كما هو معروف في أصول الفقه وعلى الحديث.
المسألة الخامسة:
اعلم أن القياس جاءت على منعه في الجملة أدلة كثيرة، وبها تمسك الظاهرية ومن تبعهم، وسنذكر هنا إن شاء الله جملًا وافية من ذلك ثم نبين الصواب فيه إن شاء الله تعالى.
قالوا: فمن ذلك قوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} [النساء: 59] وأجمع المسلمون على أن الرد إلى الله سبحانه هو الرد إلى كتابه، والرد إلى الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه هو الرد إليه في حضوره وحياته، وإلى سنته في غيبته وبعد مماته، والقياس ليس بهذا ولا هذا، ولا يقال الرد إلى القياس هو من الرد إلى الله ورسوله. لدلالة كتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام كما تقدم تقريره. لأن الله سبحانه إنما ردنا إلى كتابه وسنة رسوله، ولم يردنا إلى قياس عقولنا وآرائنا فقط. بل قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ الله} [المائدة: 49]، وقال: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله} [النساء: 105] ولم يقل بما رأيت أنت. وقال: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون} [المائدة: 45] {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون} [المائدة: 47]، وقال تعالى: {اتبعوا مَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ} [الأعراف: 3]، وقال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وقال: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51]، وقال: {قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ على نَفْسِي وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إلى رَبِّي} [سبأ: 50] فلو كان القياس هدى لم ينحصر الهدى في الوحي. وقال: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء: 65] فنفى الإيمان حتى يوجد تحكيمه وحده، وهو تحكيمه في حال حياته وتحكم سنته فقط بعد وفاته، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ} [الحجرات: 1] أي لا تقولوا حتى يقول: قال نفاة القياس: والإخبار عنه بأنه حرم ما سكت عنه، أو أوجبه قياسًا على ما تكلم بتحريمه أو إيجابه تقدم بين يديه. فإنه إذا قال: حرمت عليكم الربا في البر، فقلنا: ونحن نقيس على قولك البلوط، فهذا محض التقدم، قالوا: وقد حرم سبحانه أن نقول عليه ما لا نعلم.
فإذا قلنا ذلك فقد واقعنا هذا المحرم يقينًا، فإنا غير عالمين بأنه أراد من تحريم الربا في الذهب والفضة تحريمه في القديد من اللحوم، وهذا قفو منا ما ليس لنا به علم، وتعد لما حد لنا ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه. والواجب أن نقف عند حدوده، ولا نتجاوزها ولا نقصر بها. ولا يقال: فإبطال القياس وتحريمه والنهي عنه تقدم بين يدي الله ورسوله، وتحريم لما لم ينص على تحريمه، وقفو منكم لما ليس لكم به علم. لأنا نقول: الله سبحانه وتعالى أخرجنا من بطون أمهاتنا لا نعلم شيئًا، وأنزل علينا كتابه، وأرسل إلينا رسوله يعلمنا الكتاب والحكمة. فما علمناه وبينه لنا فهو من الدين، وما لم يعلمناه ولا بين لنا أنه من الدين فليس من الدين ضرورة، وكل ما ليس من الدين فهو باطل، فليس بعد الحق إلا الضلال. وقال تعالى: {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ} [المائدة: 3] فالذي أكمله الله سبحانه، وبينه هو ديننا لا دين لنا سواه. فأين فيما أكمله لنا. قيسوا ما سكت عنه على ما تكلمت بإيجابه أو تحريمه أو إباحته، سواء كان الجامع بينهما علة أو دليل علة، أو وصفا شبيهًا. فاستعملوا ذلك كله، وانسبوه إلى وإلى رسولي وإلى ديني، وأحكموا به علي.